الخندق وحُنين
محطات تاريخية في السيرة النبوية
ـ غزوة الخندق:
في السنة الخامسة للهجرة خرج قوم من اليهود حتى قدموا قريش يدعونهم إلى حرب النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فقام أهل الكفر والضلال من قريش واجتمعوا لذلك، وخرج اليهود إلى غطفان يريدون تجميع القبائل على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، ثم خرجوا إلى غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب الرسول الأمين خاتم المرسلين، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم على كفرهم، فخجت قريش وقائدها أبو سفيان وخرجت غطفان وعلى رأسها عيينة بن حصن والحارث بن عوف وغيرهما، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك استشار أصحابه رضوان الله عليهم فأشار عليه سليمان الفارسي رضي لله عنه بحفر الخندق الذي لم تعرفه العرب، بل كان الفرس قد عملوه في حروبهم، فضرب صلى الله عليه وسلم على المدينة الخندق، ولكن أهل النفاق ابوا إلا أن يتخلفوا فجعلوا يوَرون بالضعف من العمل ويكيدون للمسلمين. وكانوا يخرجون ويعودون دون استئذان النبي عليه الصلاة والسلام، فيما كان المسلم إذا أراد الخروج لحاجة ذكر للنبي حاجته واستأذنه حتى يقضيها ويعود.
وأجمع أهل الكفر والشرك أمرهم وتجهزت قريش فجمعت أحابيشها ومن تبعها من العرب فكانوا أربعة ءالاف، وانضمّ إليهم بنو سليم بسبعمائة وبنو أسد وفزازة وكانت ألفًا، وخرجت أشجع بأربعمائة وبنو مرة بمثلهم، فكان الأحزاب حينها عشرة ءالاف، والمسلمون ثلاثة ءالاف، حفروا الخندق الذي يريدون رفع راية هذا الدين الحنيف الذي دعا إليه أنبياء الله صلوات الله عليهم، ويرجون من الله النصر والأمداد، لأنهم على يقين من أن النصر ليس إلا من عند الله القادر على كل شىء.
وتظهر معجزات باهرات على يد النبي صلى الله عليه وسلم لتؤكد صدقه وصدق دعوته ودينه، منها أن أحد أصحابه رضوان الله عليه كان يحفر الخندق فصادف كدية، وهي قطعة صلبة لا يعمل فيها الفأس، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول وضربه فعاد كثيبًا سائلاً لا يرد فأسًا ولا مسجاة.
ولما فرغ عليه الصلاة والسلام من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال وغطفان، وخرج صلى الله عليه وسلم بثلاثة ءالاف من المسلمين قُبُل الخندق فضرب عسكره والخندق بينه وبين المشركين. وقد حاول بعض فوارس قريش أن يجتازوا الخندق، متجزئين على رسول الله والحق الذي أتى به، فقتل منهم اثنان وخرجت خيلهم من الحندق منهزمة هاربة.
وبقيت قريش على هذه الحال لا تنال من المسلمين حتى استجاب الله تعالى دعاء النبي وأصحابه فبعث على المشركين ريحًا عاصفًا في ليالٍ شديدة البرد فجعلت تقلب أبنيتهم وقدورهم، فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم واستتر حتى سمع أبا سفيان يقول :"لقد لقينا من هذه الريح ما ترون، ما يستمسك لنا ببناء ولا تثبت لنا قدر ولا تقوم لنا نار فارتحلوا فإني مرتحل" وعاد حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره برحيل القوم فحمد الله وقال :"الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم".
وهكذا هُزم أهل الإشراك ونصَر الرحمنُ رسوله ومن كان معه من المسلمين الذين بذلوا أرواحهم وأموالهم في سبيل الله ورفع راية الحق ونيل الدرجات العُلى، فكانت ثمرة تسليمهم لله ورسوله أن فتح الله على أيديهم البلاد الواسعة في المشارق والمغارب.
ـ غزوة حنين:
بعد أن فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة هال الأمر هوزان فأرادت أن تحارب الإيمان وأهلَه، فجمع مالك بن عوف النصري هوزان وثقيف ونصر وجشم وغيرها، وسار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل بأوطاس استعدادًا للحرب، وبعث عيونًا من رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا على خيل بلق والله ما تماسكنا حتى أصابنا ما ترى.
ولما سمع بهم رسول الله بعث رجلا وأمره أن يدخل في الناس حتى يأتيه بخبرهم، ففعل فأخبره ما أجمعوا عليه من الحرب، فخرج صلى الله عليه وسلم ومعه ألفان من أهل مكة باثني عشر ألف مقاتل من أصحابه حتى وصلوا إلى وادي حنين فانحذروا في الوادي حيث كمن لهم المشركون في شعابه وأجنانه ومضايقه، والتحم الجيشان زمنًا حتى قال النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: "الآن حمي الوطيس". وقد سمع يقول: "أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" وليس هذا من الشعر وإن كان وافق أحد البحور الشعرية، فإن الكثير من الناس قدي تكلمون بكلام موزون دون أن يقصدوا الشعر فلا يسمى ذلك شعرًا، لأن الله تبارك وتعالى لم يعلم نبيه الشعر قال في محكم التنزيل:{وما علمناه الشعّر وما ينبغي له} والآيات الدالة على ذلك كثيرة في القرءان.
وجاء في الخبر أنّه صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل بها وجوههم فقال: "شاهت الوجوه" فما خلق الله منها إنسانًا إلا ملأ عينيه ترابًا بتلك القبضة فولوا مدبرين. وكان النصر عظيمًا والغنيمة الكبيرة، ثم وزع صلى الله عليه وسلم على المسلمين نصيبهم. وقدمت الشيماء بنت الحارق بن عبد العزى أخت رسول الله من الرضاعة فقالت: يا رسول الله إني أختك، قال: "وما علامة ذلك" فذكرت له العلامة فبسط لها رداءه وأجلسها عليه.
إنها لمواقف مشرفة أظهرت هيبة الإسلام وحقيته، وأنه الدين الذي فيه صلاح الأمم على مر العصور. ومن هذه المواقف نستخلص معاين جليلة، هي أن العقيدة الحقة إن كانت راسخة في القلوب فإن جحافل الكفر والطغيان لن تستطيع ردعها عما تصبوا إليه من إظهار هذا الدين عاليًا، رغم البلاء والمحن والشدائد.